شهر رمضان دورة تدريبية في الصياغة الروحية ؟؟؟

(( شهر رمضان دورة تدريبية في الصياغة الروحية ))

أية خسارة أعظم للنفس من خسارة الموسم العبادي؟
العلامة السيد محمد حسين فضل الله

في هذا الشهر الشريف، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين
وفيما روي من كلامه في آخر جمعة من شعبان ان نعرف قيمة هذا الشهر، وكيفية
تنظيم أوضاعنا الروحية والاجتماعية فيه. فتحدث رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن فضل هذا الشهر وعظمته عند الله وما يحصل عليه الانسان فيه من أجر
وثواب ورحمة ولطف من الله سبحانه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: “أيها
الناس انه قد أقبل اليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، هو عند الله
أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، قد دعيتم فيه الى
ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامته أنفاسكم فيه تسبيح”، وضيافة الله هي
نعمه ورحماته وألطافه ومغفرته ورضوانه. والأنفاس تسبيح لأنها أنفاس المؤمن
الذي يعيش روحية الإيمان فتتصاعد أنفاسه بكل طهر وصفاء ونقاء فهو يتنفس
كما يسبّح، لأن تسبيح القلب أعمق من تسبيح اللسان، ولذلك فإن الانسان الذي
يعيش روحية هذا الشهر، يحسب الله تعالى أنفاسه كما لو أنه يسبّح. “ونومكم
فيه عبادة” لأنه نوم الصائم الذي يريد تجديد نشاطه من أجل ان يصوم براحة
والذي يريد ان يجدد نشاطه ويخفف من تعبه، لأنه سيقوم في الليل لربه
وسيمارس مسؤولياته في هذا الشهر، فهذا النوم نوم عبادة “وعملكم فيه مقبول”
فالله سبحانه جعل لهذا الشهر بركته، ومن بركته قبول أعمالكم ولكن بشروطها،
فالاخلاص والقربة الى الله والإيمان من شروطها “ودعاؤكم فيه مستجاب” لأنه
موسم الرحمة الذي يطل فيه الله على عباده برحمته “فاسألوا الله بنيات
صادقة” حاولوا ان تربوا نياتكم على الصدق “وقلوب طاهرة” من الشرك والحقد
والبغضاء والشر لعباد الله “وان يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه” وصيامه هو
الفرض الذي فرضه عليكم، وتلاوة القرآن هو العمل الذي استحبه الله إليكم،
وبمقدار ما يتلو الصائم القرآن بمقدار ما يعي ايمانه واسلامه وعمله “فإن
الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم” أي شقاء أعظم من هذا
الشقاء؟ ان يدخل الانسان في أجواء شهر رمضان، والرحمة تنهمر من السماء على
الناس، وكذلك اللطف الإلهي، وإذ بهذا الانسان بعيد عن الله، غريب عن رحمته.

العبرة والعظة
“فاذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه” لا تنسوا يوم العرض الأكبر
على الله، ذلك اليوم الذي هو كألف سنة مما تعدون، ذلك اليوم الذي يقف فيه
الانسان ينظر عن يمينه وعن شماله”، إذ الخلائق لكل امرئ منهم يومئذ شأن
يغنيه.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بألا نستغرق في جوعنا الذاتي وعطشنا
الذاتي، ولكن لنتذكر ان هناك جوعاً وعطشاً أكبر في يوم القيامة، فلنحاول
ان نخفف بجوعنا وعطشنا اليوم من جوعنا وعطشنا في ذلك اليوم، وان قضية ان
تجوع وتعطش قربة الى الله، هي ان تجد عند الله كل شبع وريّ في ذلك كله.
وإذا ذكرتم في شهر رمضان الجوع والعطش فاذكروا كيف تخففون من سيئاتكم
وذنوبكم، وكيف تنفتحون على الله في طاعتكم ثم تذكروا بجوعكم وعطشكم،
الجائعين والعطاشى في الدنيا من حولكم الذين لا يجدون ما يأكلون ويشربون،
تذكروهم عندما تحسون بلذعات الجوع والعطش.
وهناك ممن رزقهم الله تعالى المال لا يفهمون معنى ان يجوع الناس ويعطشوا،
لهذا فقد فرض الله الصوم ليتحسس الأغنياء جوع الفقراء وآلامهم ومعاناتهم
تساوياً معهم، وقد قالها علي عليه السلام: “ما جاع فقير إلا بما مُتّع به
غني”، “ان الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، لهذا تصدقوا على
فقرائكم ومساكينكم” تصدقوا عليهم بما يمكن ان يحل مشكلة فقرهم ومسكنهم،
وبما يوسع عليهم ويدخلهم رحاب رحمته.

التوقير والرحمة
ثم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلاقة السليمة التي يجب ان تبنى
بين الجيل القديم من كبار السن، وبين الجيل الجديد من صغاره فيقول الرسول
الأعظم: “ووقروا كباركم وارحموا صغاركم” أيها الجيل الجديد، يا أبنا
اليوم، إذا عشتم مع أبناء الأمس مع آبائكم وأمهاتكم، وقروهم، واحترموا
تجربتهم ولا تعتبر نفسك -أيها الشاب- إذا كنت جامعياً أو متعلماً، أنك
أكثر ثقافة من أبيك، قد تكون أكثر ثقافة في النظريات العلمية ولكن أباك قد
يكون أكثر ثقافة منك في تجربة الحياة، وفيما عاشه من حركة الحياة.
ويا أبناء الأمس “ارحموا صغاركم” ارحموا قلة تجربتهم، وارحموا تطلعاتهم
والآفاق الضيقة التي يعيشونها، ارحموا أحلامهم ومشاريعهم وأمانيهم في
الحياة، ولا تعتبر -أيها الأب- ان يكون ولدك نسخة عنك في كل شيء، لأن
لولدك عصره، كما لك عصرك، ولولدك أحلامه، كما لك أحلامك، فحاول ان تحاوره
وتفهمه وتضمه، ومشكلة الكثيرين من الآباء والأمهات انهم لا يحاولون ان
يفهموا أولادهم جيداً، لذلك لا يستطيعون ان يدخلوا الى عقول وواقع
أولادهم.