[b]موقعة شقحب 702 هـ أراد قازان حفيد هولاكو تحطيم سلطان المسلمين في مصر ، واسترداد الأرض
المقدسة وتسليمها للنصارى ، فجَيَّش الجيوش الجرّارة لهذه المهمة ،
وتقدّمت جيوشه إلى بلاد " حلب وحماة " حتى وصلت إلى " حمص وبعلبك " ،
وعاثوا في تلك الأراضي فسادا ، وأقدموا على عظائم وفظائع تعجز الألسن عن
وصفها ، واستحرّ القتل في المسلمين ، وسرعان ما انتشرت هذه الأخبار إلى
التخوم المجاورة والبلدان القريبة ، حتى قَلقَ الناس وفزعوا فزعاً شديداً
، وجعل المرجفون يقولون : " لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء
التتار " .
وعمل العلماء على إشراك الخليفة
المستكفي بالله ، والسلطان الناصر
محمد بن قلاوون الصالحي في مواجهة الغزاة ، وقام شيخ الإسلام
ابن تيمية بدور
عظيم في هذا الجانب ، فقد اجتمع نائب السلطان والأمراء وقادة الجند
والعلماء ، ونظروا فيمن يبعثوه إلى السلطان ليحثه على المجيء لنصرة أهل
الشام ، فوقع اختيارهم على الإمام
ابن تيمية رحمه الله لما علموا من شجاعته وجرأته في قول الحق والصدع به ، ووقف
ابن تيمية موقفاً
شجاعاً في وجه السلطان - رغم جبروته وقوته - وقال له فيما قال : " إن كنتم
أعرضتم عن الشام وحمايته ، أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه ويستغله في زمن
الأمن " ، ثم قال له : " لو قُدِّر أنكم لستم حكَّام الشام ولا ملوكه
واستنصركم أهله وجب عليكم النصر ، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه ، وهم
رعاياكم ، وأنتم مسؤولون عنهم؟! " ، ولم يزل بهم حتى أرسلوا الجيوش إلى
الشام .
وبعد ذلك اجتمع الأمراء وتحالفوا على لقاء العدو وشجّعوا أنفسهم ورعاياهم
حتى نودي في دمشق بألاَّ يرحل منها أحد ، وتهيّأ الناس للقتال وارتفعت
الروح المعنوية عند الجند وعامة الناس ، وكان لشيخ الإسلام
ابن تيمية أعظم
الأثر في إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماسها ، حتى إنه كان يحلف للأمراء
وللناس أنهم في هذه الكرَّة منصورون ، فيقول له الأمراء : قل : إن شاء
الله ، فيقول : " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً " ، ثقةً منه بموعود
الله بالنصر لمن أطاعه وجاهد في سبيله .
وكان يدور على الأجناد والأمراء ، ويفتي الناس بالفطر ، ويأكل هو من شيء
معه في يده ، ليعلمهم أن إفطارهم أفضل ليتقووا على القتال ، فيفطر الناس
معه .
ومرّ السلطان بصفوف الجيش والقراء يقرؤون الآيات التي تحضّ على الجهاد
والاستشهاد ، وهو يقول لهم : دافعوا عن دينكم وحريمكم ، ووضعت الأحمال
وراء الصفوف ، وأمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة .
وقد ثبت السلطان
ابن قلاوون في ذلك الموقف ثباتاً عظيماً ، وبايع الله وصدَقه فصدقه الله ، حتى إنه أمر بجواده فقيِّد لئلا يهرب .
ثم بدأ القتال والتحم الصفّان في يوم السبت الثاني من رمضان بسهل شقحب
جنوبي دمشق ، وكان عدد جيش التتار خمسين ألف مقاتل ، وقيل إن عدده كان يصل
إلى مائة ألف ، وطلب شيخ الإسلام
ابن تيمية من
قائد الجيش أن يوقفه موقف الموت ، فأخذه القائد وأوقفه في مكان ينحدر منه
التتار كالسيل الهادر ، فلما أقبلوا وبريق سيوفهم يلمع من بعيد ، والغبار
منعقد فوق رؤوسهم ، قال له : يا سيدي هذا موقف الموت وهذا العدو قد أقبل
تحت هذا الغبار المنعقد ، فدونك ما تريد ، فرفع طرفه إلى السماء ، وأشخص
بصره ، وحرك شفتيه طويلاً ، ثم أقدم على القتال .
واحتدمت المعركة ، واستحرّ القتل ، واستطاع التتار في بادئ الأمر أن
ينزلوا بالمسلمين خسارة جسيمة فقتل من قتل من الأمراء إلا أن الحال لم
يلبث أن تحول بفضل الله لصالح المسلمين .
وقد استمرت المعركة من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد ،
ولما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلال والجبال والآكام ، فأحاط بهم
المسلمون ومنعوهم من الهرب ، وقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل
، وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم ، وتساقط كثير ممن حاول
الهرب في الأودية والمهالك ، وغرق آخرون في الفرات بسبب الظلام .
وكشف الله بذلك عن المسلمين غمَّة عظيمة شديدة ، فأمسى الناس وقد استقرت
خواطرهم ، واستبشروا بهذا الفتح العظيم والنصر المبارك ، فلله الحمد
والمنة.
ا